فصل: ثالثًا: سنة الخلفاء وسيرتهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي (نسخة منقحة)



.ثانيًا: الحديث الشريف:

جاء في السنة ما يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ترك المشاورة قط بل قال أبو هريرة رضي الله عنه: (ما رأيت أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله لأصحابه).
وجاء أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحرص دائمًا على مشاورة الشيخين أبي بكر وعمر، بل جاء في حديث الإمام أحمد رحمه الله أن الرسول قال لهما: «لو اجتمعتما على رأي ما خالفتكما» وهذا الالتزام من الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على تأكيد هذا الأمر ووجوبه. ومما جاء في شأن الوقائع التي شاور فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه: مشاورتهم يوم بدر في الخروج إلى العير، ومشاورتهم في منزل الحرب وهي ثلاث مشاورات كلها في غزوة بدر، وكذلك شاورهم في أحد القعود في المدينة أو الخروج للعدو وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، وقال في حديث الإفك: «أشيروا علي معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي ورموهم، وايم الله ما علمت على أهلي من سوء! وأبنوهم بمن؟ والله ما علمت عليهم إلا خيرًا!!».

.ثالثًا: سنة الخلفاء وسيرتهم:

وأما خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم الراشدون فإنهم ما تركوا المشورة وخاصة في المسائل الهامة كتولية الإمام وشن الحروب وتصريف أمورها وتولية الأمراء على أقاليم الإسلام، فتولية أبي بكر وعمر وعثمان كلها كانت بمشورة وإن اختلفت صورها وظروفها.. وحروب الردة وفارس والروم كلها كانت بمشورة المسلمين علانية في المسجد. وسأعرض لبعض هذه المشورات في الكلام على مجالات الشورى إن شاء الله تعالى. ولذلك جاء عن عمر بن الخطاب قوله: (من بايع رجلًا من غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو والذي بايعه تغرة أن يقتلا) (البخاري- الاعتصام ص75).

.مرونة التطبيق:

فيما قدمت من آيات وسنة، وأقوال للخلفاء والأئمة دلالة واضحة على أن الشورى قاعدة من قواعد الشريعة، ومبدأ من مبادئ الحكم في الإسلام.
ولكن يجب أن نعلم أن هذه القاعدة كانت من المرونة، والقابلية للتكييف بحيث لا تلزم المسلمين بصورة من الصور، ولا بكيفية من الكيفيات تكون واجبة التطبيق وجوب المبدأ نفسه. فليس في الآية ولا السنة بيان بعدد المستشارين ولا بكيفية استشارتهم، ولا في صفتهم، وليس فيها إلا أن الإمام يجب عليه أن يستشير الناس فيما يعرض لهم من شؤونهم، وأنهم إذا وصلوا إلى قرار أخير بعد الشورى فإنه لا يجوز العدول عنه، ويجب بعد ذلك التوكل على الله عز وجل وعدم التردد والخوف {فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين}.
وهذا يعني أن التحكم يجعل كيفية ما من الكيفيات أمرًا شرعيًّا مقررًا تحكم باطل. إلا أن كانت مستندة إلى نص من النصوص، أو ما تقتضيه (المصلحة المرسلة) والصالح العام للمسلمين. وفي هذه الحالة الثانية الأمر خاضع للنظر والترجيح.
وحتى نفهم هذا الكلام المجمل أحب أن نفرق في فهم شريعة الإسلام بين أمرين: العبادات والمعاملات.
فالعبادات وهي القرب التي شرعها الله تبارك وتعالى ولنتقرب بها إليه كالصلاة والزكاة والصيام والحج الأصل فيها للتحريم.. ولا يجوز إثبات شيء منها إلا بنص وذلك أن الله لا يعبد إلا بما شرع هو سبحانه وتعالى وهذا أيضًا شأن كيفياتها، وحركاتها وسكناتها، ولذلك تكفل الشارع ببيانها أتم البيان فبين كلماتها وكيفياتها وأوقاتها، ومقاديرها وحركاتها وسكناتها، وكل عمل من هذه الأعمال في هذه العبادات ليس عليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مردود على فاعله، ولا يقبله الله عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» متفق عليه.
وأما المعاملات فالأصل فيها الإباحة، ولا يجوز تحريم شيء منها إلا بنص عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم. فالمعاملات من بيع وتجارة وهبة، وولاية، وسياسة، وتنظيم لشؤون الدنيا الأصل في كل ذلك الإباحة، ولا يجوز تحريم شيء منها إلا بنص، ولا يجوز أيضًا أن يعطى شيء منها إلا بنص، ولا يجوز أيضًا أن يعطى شيء من هذه المعاملات وغيرها صفة شرعية محددة لم ينص الله عليها، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. فليس في تنصيب الأئمة مثلًا صفة شرعية محددة وكيفية واحدة بل الأصل فيها أن تكون عن شورى كما سبق ونص عمر بن الخطاب على ذلك.
وببيان هذا الأصل تعلم خطأ من ذهب من الفقهاء إلى أن البيع لا يجوز إلا بصيغة تفيد الإيجاب والقبول (بعت وقبلت) ولذا ذهب من قال بهذا إلى تحريم ما يعرف ببيع المعاطاة، وهو أن تعطي البائع مبلغًا من المال وتأخذ منه السلعة دون كلام يفيد الإيجاب والقبول، وهذا بيع جائز نفعله جميعًا فأنت تشتري الآن صحيفتك اليومية، وكثيرًا من السلع المعلومة دون أن تلفظ بكلمة واحدة من البائع فهل هذا بيع باطل شرعًا؟! بل وأنت تضع عشرين فلسًا في الآلة فتخرج لك (قارورة البارد) فتشربها وتنصرف والطرف الثاني في هذا العقد ليس إنسانًا وإنما هو آلة، وكل هذه البيوع مباحة لأن الأصل في المعاملات هو الإباحة ولا يجوز تحريم شيء منها إلا بنص، فالذين نظروا إلى المعاملات نظرتهم إلى العبادة أخطأوا خطأ فاحشًا لأنهم حجروا على الناس استحداث الجديد منها، وضيقوا القديم بكيفيات وهيئات وشروط لم يأذن بها الله سبحانه وتعالى، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. فالذين قالوا لا ينعقد النكاح إلا باللغة العربية قد حجروا واسعًا، والذين قالوا شركات المساهمة حرام لأنها لم تكن معروفة في عهود الفقهاء الأولى قد أخطأوا خطأ فاحشًا، وضيقوا على الناس حياتهم بل الأصل في هذه المعاملات هو الحل ولا يحرم منها إلا بنص.
وكذلك أخطأ من نظر إلى العبادة نظرته إلى المعاملة فظن أن الأصل فيها التوسعة، وعدم الالتزام ولذلك فهو ينفر ويغضب إذا قيل له يجب أن تسوى الصفوف في الصلاة، ويلزق القدم بالقدم، ويسجد على هيئة معينة، ويركع بكيفية خاصة. أقول مثل هؤلاء ينفرون إذا ذكروا بهذا ومثله، وظنوا أن هذا من التحجير والتضييق بل ليس هذا هو التحجير والتضييق، وإنما الشأن في العبادة أن تؤدي كما شرعها الله تبارك وتعالى بكيفياتها، وحركاتها، وسكناتها وبذلك نفهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، ونفهم أيضًا أن الذين لا يتقيدون في مناسك الحج بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم وعبادته مخطئون لأنه يقول: «خذوا عني مناسككم» فالأصل في العبادة التقيد التام، والحرفية المطلقة وعدم الابتداع، ومن أحدث في أمور العبادة ما ليس مأمورًا به فهو مردود عليه.
وأما شؤون الدنيا وتنظيمها فالأصل فيها الإباحة مع التقيد التام بحدود الله تبارك وتعالى، فلا يفعل فيها حرام، وأما الابتداع فيها والاستحسان فهو أمر مباح بل مطلوب شرعًا.
هذه-أخي القارئ- قاعدة هامة من قواعد فهم الشريعة، فاحرص عليها فإنك محتاج لها طيلة حياتك.
وإذا فهمت هذه القاعدة- فاعلم أن الشورى من المعاملات التي شرعها الله لننظم بها شؤون حياتنا الدنيوية على أكمل وجه وأتمه وشؤون حياتنا الدينية أيضًا.
ولما كانت خاضعة دائمًا إلى ظروف المجتمعات ونموها ورقيها، وتعدد مصالحها فإن الله عز وجل قرر المبدأ فقط (الشورى) ولم يقرر لنا كيفية معينة لتطبيقها. وذلك حتى نتصرف في الكيفية على النحو الذي يرضي ربنا، ويحقق لنا مصلحتنا الدينية والدنيوية ولذلك-أكرر مرة ثانية- يخطئ من يفرض على الناس صفة معينة لمبدأ الشورى ويقول: هذه هي الصفة الشرعية وغيرها باطل. بل الصفة التي تحقق مصلحة الأمة والجماعة، ويتحقق بها تنفيذ هذا المبدأ فهي الصفة التي يحبها الله ويرضاها. ولذلك يجب أن ينظر في الصفة الصالحة نظرة المصلحة العامة ولا نحجر على الناس بصفة معينة، فأي الصفات حققت مصلحة الجماعة فهي صفة شرعية واجبة أوجبتها هنا (المصلحة المرسلة) وسيأتيك إن شاء الله شرح لهذا الأصل الفقهي عند الكلام على القرار الأخير في أمر الشورى.

.مجالات الشورى:

.مدخل:

مضى القول بأن الشورى في حقيقتها استطلاع الرأي من أهل الخبرة للوصول إلى أقرب الأمور للحق، وأن الحق في أمور الشورى لا يقطع به لأن المقطوع بأنه حق لا يدخل في مجالات الشورى، وسيأتي إن شاء الله تفصيل لهذه الجملة الأخيرة، وعرفنا أيضًا أن أسعد الناس حظًا في الوصول إلى الحق هم الذين يتجردون لله سبحانه وتعالى، ويتخلصون من هوى أنفسهم، ومضى كذلك القول بأن الشورى مبدأ واجب التطبيق وقاعدة من قواعد الحكم في الإسلام، وأنه مع ذلك مرن في التطبيق واتخاذ الشكل المناسب في كل عصر من عصور الإسلام.
والآن أخي القارئ نحن مع المجالات التي سيعمل أهل الشورى فيها، وهذا للإجابة عن هذا السؤال: ما العمل الذي سيزاوله أهل الشورى عندما يجتمعون؟ وفي أي القضايا سيبحثون ويناقشون؟
وللإجابة عن هذا السؤال أحب أن أذكر بأن هناك فروقًا أساسية بين نظام الشورى في الإسلام وأي نظام آخر، وسيأتي لهذه الفروق فصل مستقل، إن شاء الله تعالى.
ونستطيع أن نرد هذه القضايا إلى ستة أبواب رئيسية هي: